الحمد لله القائل (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [ الفرقان : 33 ]
والصلاة والسلام على نبي الله القائل : " يَحْمِلُ هذا العِلم من كل خَلَفٍ عُدولُه ؛ يَنْفُون عنه تحريف الغالين ، وانتحال الْمُبْطِلِين ، وتأويل الجاهلين " .
وقد تكفّل الله بِحِفْظِ كِتابه فتكفّل بِـرَدِّ كل فِرية ، ودَحْضِ كل شبهة ؛ بِحُجَجٍ عقلية ، وبراهين قطعية – ومن ذلك الحفْظ أن قـيّض الله لهذا الدِّين أئمة أعلام يَنفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال الْمُبْطِلين ، وتأويل الجاهلين .
فحفِظوا السنة النبوية ، واعتَنوا بها عناية بالغة فائقة لا تُعرف لِعِلم من العلوم ، ذلك لأنها هي المصدر الثاني من مصادِر التشريع ، وهي الوحي الثاني ، الذي قال عنه رب العزّة سبحانه : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3 ، 4] .
وقد أمر الله بالأخذ بالسنة فقال : ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )
قال عليه الصلاة والسلام : ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه ، وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
وفي رواية : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول : عليكم بالقرآن ! فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه . رواه الإمام أحمد .
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – يكتب كل شيء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه ، فقال : أكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق . رواه ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم .
وإن أعظم جهود بُذِلت هي في خدمة السنة النبوية ، عناية بالمتون والأسانيد ، وتأصيلا لعلوم السنة ، وعناية بالجرح والتعديل ، وتتبع الأخبار والتحقق من مصادرها ، ومن سماع الرواة ، ومن تقييد الوفيات ، إلى غير ذلك مما يقف المرء أمامه متعجِّبا من هذه الجهود الجبارة المباركة .
ولعلنا نُشير - مُجرّد إشارة - إلى نُتف من عناية الأمة بالسنة ، وعناية الْمُحدِّثِين به سنداً ومتناً ، رواية ودراية ، فمن ذلك :
تصحيح لفظ دون لفظ .
وتصحيح أول الحديث دون آخره ، والعكس .
تصحيح حديث راوٍ في شيخ دون بقية شيوخه ، والعكس :
تضعيف حديث راوٍ في شيخ مُعيّن .
إلى غير ذلك مما يَدلّ على عناية الأمة بالسنة النبوية .
وعُنيَتِ الأمة بالأسانيد عناية بالغة لا تُعرف لأمة من الأمم ..
قال ابن حزم : كثير من نقل اليهود - بل هو أعلى ما عندهم - إلا أنهم لا يقربون فيه من موسى كَقُرْبِنا فيه من محمد صلى الله عليه وسلم ، بل يَقِفُون ولا بُدّ حيث بينهم وبين موسى عليه السلام أزيد من ثلاثين عصراً في أزيد من ألف وخمسمائة عام ، وإنما يبلغون بالنقل إلى هلال وشماني ومرعقيما وأمثالهم ، وأظن أن لهم مسألة واحدة فقط يروونها عن حبر من أحبارهم عن نبي من متأخري أنبيائهم أخذها عنه مشافهة في نكاح الرجل ابنته إذا مات عنها أخوه ، وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وحده فقط ، على أن مَخْرَجه من كذاب قد صَحّ كذبه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :
ودلائل صِدق المخبر وكَذِبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها ، ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها ، والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة ، كتصديق الأمة المعصومة ، ودلالة العادات وغير ذلك ، وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور ، فلو عُدِمَت المصاحف من الأرض لم يَقْدَح ذلك فيما حفظوه ، بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عُدِمَت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها ، إذ لا يحفظها - إن حفظها - إلا قليل لا يوثق بحفظهم ، فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب ، إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها ، وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه ، ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين ، ولا لهم كلام في نَقَلَةِ العلم وتعديلهم وجرحهم ، ومعرفة أحوال نَقَلَةِ العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ ، بل قد عُلِمَ أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذَّبوا المسيح ، ثم كذبوا محمداً ، فإذا كانت الكُتُب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن متواترة عنهم ، ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين . اهـ .
ومن هذا المنطَلق اعتنى علماء الإسلام بتدوين السنة النبوية ، ونقل كل ما يتعلّق بها ، حتى نقلوا أقوال الأئمة في الرِّجال ، بل نَقَلوا الإشارة وتعبيرات الوجوه في تعديل وتجريح الرواة !
واعتنى العلماء قديما وحديثا بالتصحيح والتضعيف ، فيَجِد القارئ أنهم يُصحِّحون لفظة دون سواها ، أو يُصَحِّحون حديثا دون حرف أو لفظة واحدة .
وقد رأيت ضرورة نقل و جَمْع كُتُب السنة النبوية الموجود منها في ملفات يُمكن للجميع قراءتها مع تعريف موجز لتلك الكُتُب .
نظرا لجهل كثير من الناس بِكُتُب السنة ، وطريقة مؤلفيها فيها ، وجهل البعض بِقدرِها ومنْزِلتها .